الأحد، 8 يوليو 2012

تحطيم رأس أم عبده


تحطيم رأس أم عبده



أقف فوق إحدى ناطحات السحاب الشاهقة، أشعر بأني خفيف كالريشة، خاوٍ كالبوصة، أبسط ذراعاي بالهواء، أكاد أرتفع عن الأرض، أسقط من أعلى الناطحة، أسقط بسرعة، بل أهوي بشدة، تمزِّقني سيوف هوائية من حدتها أكاد لا أشعر بها، فقط أرى تمزقي، هل سأموت؟ هل سأموت من سرعة السقوط أم من شدة السقطة؟
أظنني سأموت من الشعور الأكثر إيلامًا بأني لن أصل للأرض أبدًا.. سأموت متمزقًا متناثرًا!!
انتشلني من جحيم ذاك الحلم صوت أمي تصيح:
-         اصحَ يا عبده.. بقينا الضهر يا ابني..
انتفضتُ مسرعًا لأجد أني ما زلت في الصباح الباكر.. الساعة السابعة صباحًا.. تتبع أمي هذه الحيلة كلما فشلت في إيقاظي بالطرق التقليدية، وفي كل مرة تنطلي عليَّ الحيلة وأستيقظ متخيلًا وجوم وجه مديري في العمل وهو يجازيني عن التأخير، قلت وأنا أُقبِّل قبة كتفها الحنون :
-         صباح الخير يا أم عبده.. مش هتبطلي المقالب دي؟!!
ابتسمت ابتسامة خبيثة قائلة:
-         لما تبطَّل بصبصة لبنات الجيران..
كنت أرتدي ملابسي استعدادًا للذهاب للعمل.. جاءني خاطر عن ذاك الحلم.. تذكرته - وأنا عادة لا أتذكر أحلامي - تذكرته بغرابة الشعور الذي خلَّفه.. وهو شعوري بالخوف، ينقبض قلبي منكمشًا بين ضلوعي كلما تذكرته..
-         يا عبده الفطار..
هذه أمي تنادي للمرة الثانية، يسمُّون أمي بـ(أم عبده).. وهذا بالطبع يجعلني عبده..
إنما الجدير بالذكر أن كل الأوراق الرسمية والدلالات والشهود يؤكدون أن اسمي (سعيد)!! فمن أين أتت تسميتي (عبده) لا أدري!!
وصلت إلى العمل بعد كفاح غير عادي يكفي ليجعل من جميع الشعب أبطالًا لمجرد خوضه يوميًّا.. أما أنا فلا أعرف ماذا يجعل من!! فهل أكون أنا بطل عندما أبتسم للشخص الذي يزاحم مكاني الضئيل بالأتوبيس؟! أم وأنا أختلس النظر إلى إحدى الفاتنات؟! أم أني مجرد نذل غير قنوع عندما أسخط على مرتبي الضئيل وأقبل بمبلغ تبادل المنفعة، أو كما يسميها بعض المتشددين "الرشوة"!!
بالعمل.. لا مكان لعبده.. فقط ينادونني بسعيد، لقد أخفيتُ مسمَّى عبده هذا عن كل أصدقائي، حتى عندما يزورني أحدهم لا أجعل أحدًا يناديني بهذا الاسم؛ خشية أن يتسرَّب الاسم إلى باقي مجتمعي.. ليس لأني أكرهه، إنما لأني لا أقبله، فأشعر كأنه شخص آخر يزاحمني بجسدي الفاني ومجتمعي البسيط..
عدت للمنزل فوجدت أمي تستعد للخروج بسرعة.. قالت إنه جاءها مرسال بأن أختي ستضع حملها وهي بحاله متعسِّرة وتم نقلها للمشفى..
نظرت إليَّ كأنها تستجديني للحضور، برغم أنها تعلم أنني لست على وفاق مع زوج أختي..
فقلت لها ببرود وأنا أدير ظهري:
-         طمِّنيني على الأخبار لما توصلي..
دخلت غرفتي ثم ألقيت بجسدي لسريري مغمضًا عيني.. أفكر بأول نكتة سألقيها.. أول ضحكة سأسمعها.. وأول كوب قهوة سأحتسيه بعد أن أفيق من قيلولتي.. وأذهب للقاء المعتاد مع الأصدقاء.. جاءتني بصوت عذب رنان.. تتحدث بلغة لا أفهمها.. أقسم أني لم أحب اسمي، أو أسمعه يومًا بهذا الجمال إلا حين همست به.. مقطع صوتي واحد.. (سعيد).. بل إني لم أشعر بأن للنوم راحة كمثل اللحظة.. ثم جاءني صوت أكثر قوة يحمل نبرة مألوفة...
-         عبده..
كانت تبكي بحرقة.. تصرخ صرخات انخلع لها فؤادي.. تصيح بصوت متقطِّع:
-         ابني.. ابني..
وشعرت أني عالق بصراع ما بين الوعي واللاوعي، حيث أدرك الحلم وأحاول الصحو.. الصرخات تعلو وتزداد.. هل سأموت؟! أظنني سأموت من الشعور الأكثر إيلامًا.. أني لن أصحو أبدًا..
كان مذاق الحلم كمذاق كوب من أجود أنواع القهوة، ثم تحولت القهوة بكوبي إلى حبات من رمل بحلقي.. إنها المرة الثانية في اليوم التي تأتيني فيها هذه الكوابيس.. حمدًا لله أنني أفقت أخيرًا.. و كنت أظنني لن أفعل..
لم أنضم للصحبة بمجلسهم كما أمِلْت، إنما أصابني خدر قاتل، فظللت رابضًا بالبيت، جلست بالشرفة أُحملق بالسقف.. تمنيت لو أن الزمان يعود بي عامًا واحدًا فقط.. عندما أتيحت لي فرصة السفر.. بل عندما أتيح لي بيع قطعة الأرض التي ورثتها.. عندما أعربت عن كرهي لزوج أختي بلا أسباب فكسبت عداوته.. وعندما لم أحفل عندما تزوَّجَت الفتاة التي أحببتها.. وبمنتهى الوقاحة قلت:
-         كلبة وراحت.. بكرة الفلوس تبقى في إيدي واشتري اللي أحسن منها!!
لكنها لم تكن كذلك.. ولم يصل ليدي أي من تلك الترَّهات حتى الآن.. كنت لأحطم رأس أمي قبل حتى أن تنطق اسم عبده هذا.. بل كنت لأسألها أولًا.. لم تناديني به؟ ثم أحطم رأسها، ضحكتُ حقًّا.. ضحكتُ من نفسي عندما وجدتني أقول:
-         تنقطع إيدي يا أم عبده قبل ما ألمس راسك..
ها قد أسميتُها أم عبده.. بالمساء متأخرًا دخلت أمي تعلو وجهها تباشير الفرحة.. قالت:
-         الحمد لله.. قامت بالسلامة.. جابت ولد..
للحظة نسيت كل شيء قائلًا:
-         حمد لله..
فباغتتني قائلة:
-         هنسميه عبده.. على اسم خاله!!!

هناك تعليقان (2):

  1. انتي فظيعة :)))
    وعبده عامل إيه دلوقتي؟ :D

    ردحذف
  2. المهم يكون عبده "سعيد".

    تفاصيل صغيرة ترسم الشخصية تماما، أسلوبك رائع.

    ردحذف