الأحد، 10 يونيو 2012

فسيفساء..


فسيفساء..



كانت هي نظرة خاطفة ارتج لها كياني.
أهو تخطيط قدري أن أتكاسل في النهوض صباحًا فأتأخر.. أن أنسى كتابي المفضل وأقلامي الحبرية؟ أهو حسن حظي أن أرتدي حذائي الأحمر.. أن أقفز بأعجوبة إلى عربة المترو قبل أن يغلق أبوابه بسرعة البرق؟ لا أعلم.. لكنني أعلم أنها نظرة خاطفة ارتجَّ لها كياني..
حين ركضت ألحق أول درجة تصل إليها قدمي من درجات السلم المتحرك بالمحطة.. فتصافحت كتفي وكتف شاب عريض المنكبين.. كان يركض أيضًا ليلحق الدرجة ذاتها.. تبادلنا كلمة الاعتذار دون أدنى التفاتة.. وتقاسمنا الدرجة بصمت.. زاغت عيناي ناحيته.. فلمحتُ لحيته الخفيفة وحقيبته الثقيلة.. وجدتني لا إراديًّا أدير وجهي إليه ببطء.. أتسلل إلى مطالع ملامحه.. وبلحظة الوصول المرتقبة.. وجدته يبادلني التسلل ذاته.. فضُبط كلانا متلبِّسًا بنظرة.. اقتحمتني.. أدار كلانا وجهه وكأن كهرباء صعقته.. وقبل أن أفكر في فصل التيار الكهربائي عن قلبي.. انتهى السلم ووصلنا لقمته.. ركض حذائي الأحمر باتجاه اليسار حيث يستقر القلب.. فتمنيتُ لو آخذ اتجاهًا آخر بحياتي.. لأنني أعلم إلى أين يفضي بي دومًا هذا الطريق.. اختفى الشاب عن ناظري وسرت بطريقي أفكر بوصولي المتأخر وأقلامي الحبرية..
يقولون: إن الحب هو "اثنان ينظران في الاتجاه نفسه".. وهي مقولة منطقية قد تلخِّص قصتي.. وربما تنهيها.. إنما على الرغم من افتراق خطواتنا لا أدري لمَ يحمِّلني هذا كما من الألفة الغريبة إليه.. وأكاد ألقي بكل المنطقيات التي اعتنقتُها طوال حياتي من أجل الاقتناع بشيء ساحر في الجو حدث بيننا.. لذا لم أُفاجأ كثيرًا عندما لمحته ثانية على السلم.. بل توهَّج الأمل داخلي أن ربما اتجاهنا واحد.. لكنه لطالما كان يختفي من مجال رؤيتي بعد اجتيازنا السلم ووثوبي إلى حيث يغفو القلب.. أصبح لقاؤنا يتكرر.. بل أصبح أول ما أبحث عنه فور نزولي من باب العربة هو وجهه.. ليتبادل كل منا نظرة خاطفة.. أراها تنطق بما أريد قوله فأحيانًا أقول:
- تبدو أنيقًا بهذا القميص اليوم..
فيبادلني بنظرة..
- وأنتِ جميلة كل يوم..
وأحيانًا بنظرة سريعة يلقي إليَّ السلام:
- كيف حالك؟
- بخير..
وتبوح عيناه بحزن مخفي.. فينخلع قلبي..
صدق أو لا تصدق.. ذلك الشاب غير كثيرًا بحياتي.. جعلني أهتم كثيرًا بالأشياء البسيطة.. جعلني أنظر إلى عيون الآخرين وأقرأ.. لذا للمرة الأولى استوقفتني تلك اللوحة الصغيرة المعلقة على دكان صغير.. تقول: "نُصلح أي شيء".. وليس وحدها اللوحة.. إنما الصدح الفيروزي من المذياع تتغنَّى بـ: (حبيتك والشوق انقال.. حبيتك والشوق انقال.. والليلات الحلوة ع البال.. خلي الليل يعاتب ليل.. وموال يجرَّح موال.. خلِّي القلب يقول للقلب.. رفقة نحنا ووحده الحال.. حبيتك وسع الغابات.. اللي حدود حدود اللفتات.. وسع الغيم بصبحيات.. يرحل خلف تلال تلال)..
- نصلح أي شيء..
حسنًا.. هل أنت مستعد للاختبار؟ ربما هو ليس اختبارًا.. ربما هي لعبة.. بل أمر وسط يجمع بين مصيرية الاختبار ومتعة اللعبة.. املأ فراغات عمري بما تراه مناسبًا لتكوِّن حبًّا مفيدًا.. "نظرت إليك اليوم نظرة... لأنني كنت... لكنك... فعلمت أنـ..."!!
سؤال طرحته اليوم وأنا أبحث عن عينيه لأسقيه سؤالي.. وأستقي الإجابة.. سؤال بدا مصيريًّا..
هل ما يحدث محض خيال أم حقيقة تتسلل إلى أعماقي؟ فبعض الأحيان أرى اليأس أيسر الحلول وأسلم المخاطر.. وقد يئستُ وتكسَّرت آمالي.. بل تهشَّمت.. ووقفت عقارب ساعتي وأنا أحتاج لإجابة تُصلِح أي شيء..
- نظرتُ إليكَ اليوم نظرة...
- نظرة عتاب..
همست بخجل:
- لأنني كنت...
محا ارتباكي قائلاً:
- تفتقدينني؟!
ابتسمتُ..
- لكنك...
فاعترَفَ:
- بادلتُكِ الأشواق..
- أحبك..
هذا ما حدث بعدما عاد سؤالي مكسور الإجابة.. فكنت أتخيل أنني لن ألبث أن أنطق إلا ويكمل لي عباراتي بما أتمنى.. لكن الحقيقة أنني حدثته بنفسي قائلة:
(نظرتُ إليك اليوم نظرة عتاب.. لأنني كنت أفتقدك.. لكنك نظرتَ إلى الساعة.. فعلمتُ أنه لا وقتَ لديكَ للأحلام)..
بخطوات مهزوزة طرقتُ باب "نصلح أي شيء".. عساني أجد من يعيد قطع عقلي إلى أماكنها.. فوجدت رجلاً كان يقرأ جريدة اليوم.. ما إن رآني حتى خفض صوت المذياع وابتسم.. فابتسمت بيأس لا يمكنني إخفاؤه..
- أحقًّا تصلح أي شيء؟
فقال بثقة:
- أي شيء.
قلت بتحدٍّ:
- أيمكنني أن أفسد شيئًا ما وتصلحه؟
ابتسم.. ولا أدري من أين أتى بهدوئه أمام جنوني قائلاً:
- أنا بخدمتِك..
اتجهتُ مباشرة إلى أحد أركان دكانه.. أمسكتُ تلك المزهرية الزجاجية الجميلة.. ودوَّى انفجارها بالأرض.. وأنا أصيح:
- إذًا أصلح هذه..
سادت لحظة صمت.. لإدراك ما حدث.. تماسكتُ بصعوبة.. وأنفاسي تتقطع كطفلة على وشك البكاء.. ثم حاولت الاعتذار كثيرًا.. وأخبرته بأنني سأدفع ثمنها..
لكنه رفض قائلاً:
- ادفعي ثمنها بعد أن أصلحها.. واغربي من هنا قبل أن أحطم وجهك.. ولن أصلحه..
قضيت كثيرًا من الوقت أتألم لما فعلته.. ذلك المس الجنوني الذي أصابتني به تلك القصة.. فقط أخرجتُ كل غضبي بالمزهرية وصاحبها المسكين.. تخيلتُ أنني أحطمها على رأس ذلك الشاب.. أقسم إن شعوري حقيقي جدًّا.. أقسم إن الإحساس حقيقي.. والنظرات حقيقية.. ولكن ليس على الحقيقة أن تكون واقعًا.. لذا سأغير نظرتي للأمور بالمرة.. سألتف لأرى أين يذهب هذا الشاب..
أنا ومترو الأنفاق صديقان.. ونتشابه أيضًا.. فكلانا مزدحم.. مزدحم جدًّا.. وكلانا يهيم وحيدًا على الرغم من ازدحامه.. أنا ككعكة بعيد ميلاد.. تسارع الجميع ليأخذوا قطعة وذهبوا.. وهو احتوى الجميع وازدحم ثم رحل عنه الجميع..
كنت قد انتظرت صدفة رؤيته بفارغ الصبر.. إنما عزَّ ذلك اللقاء.. وكالعادة طالت الأيام لما انتظرتُ موعدًا.. والانتظار دومًا إما أن يعلمنا الصبر.. وإما أن يذيقنا الصبر.. وأنا اكتفيت من انتظار أشياء لا تأتي.. لذا قررت قرارًا جمهوريًّا دكتاتوريًّا بأن ألقي هذا الهراء ورائي.. سأنظر للأمام.. نعم.. سأنظر أمامي..
الأمام؟! غبية.. غبية.. غبية..
كدتُ أصفع جبهتي ذاك اليوم لفرط غبائي.. لم أقوَ على احتمال المفاجأة.. لم تقوَ قدماي على حملي.. وكدت أسقط أرضًا.. لأنها هي النظرة الخاطفة ذاتها التي يرتج لها كياني.. لكن لم تكن النظرة هي المفاجأة.. فأنا أحترم ذاك القرار بإنهاء مهزلة النظرات الطائشة.. إنما أنا دومًا أفاجئ نفسي.. كيف لم يمكنني أن أخمن من قبل أنه لم يكن يتبعني؟! كيف لم أفهم أنه كان يختفي دومًا بعد مرورنا على السلم المتحرك لأنه يأخذ الاتجاه الجانبي ليصل إلى الرصيف المقابل؟! كيف لم أره من قبل؟! تقافزت الأسئلة أمامي.. وأنا أراه أمامي على الرصيف المقابل يختلس النظرات إليَّ.. وعلى الرغم من تلبُّكي وربكتي الظاهرة التي أزعم أنها بسبب المفاجأة.. وليس بسبب التسلل الغريب العائد بقوة للسحر العارم في النظرات.. الذي جعل ما بيننا معركة..
فكنت ألقي إليه النظرات شزرًا..
- كيف تغيب أيها الأحمق؟! ألا تعلم أنني أشتاقك؟!
فيرد لي نظرة تشبهها:
- أنا طوال الوقت أمامك يا غبية..
فأبعث له كرة نارية مع النظرة:
- لا بد أنك من محترفي الألاعيب.. تسقطني بشباك النظرات..
فيرد بنظرة باردة تشعل نظراتي غضبًا:
- يا للعجب!! أنتِ تزدادين غباء.. فلا يمكنك التمييز بين النظرة والأخرى.
أظنني نطقت بها هامسة من فرط اندماجي:
- لن أسمح لك بعد اليوم..
وأدرتُ وجهي..
ثم فصل بيننا صديق مشترك.. دوَّى بيننا بسرعة الضوء والضوضاء.. فقفزت أحتمي به أختبئ بين زحامه.. وأنا ألهث من المعركة بحزن جندي منتصر خسر أحباءه بالمعركة.. فما زاده انتصاره إلا خسارة..
السؤال: لِمَ لا تعطينا الحياة ما نحتاجه بشدة.. حتى عندما نكون على استعداد لأن نتخلى عنها لنصل إليه؟
الإجابة: لا تعطينا الحياة ما نرغب به بشدة إلا بعدما نبدأ في التخلي عنه ونفكر في بدائله..
قصتي تلك كانت لتكون معقولة بوقت آخر.. إنما (الغموض.. السحر.. الرهف.. الحب).. تلك الأشياء اللا ملموسة.. أصبحت صعبة التصديق.. فكيف أصدقها؟!
مررت ذاك اليوم بـ"نصلح أي شيء".. وعلى الرغم من ترددي الكبير في أن أطأ الدكان بقدمي مرة أخرى.. خشية حدوث أي كوارث محتملة.. فإنني رأيت صاحبه يجلس بالباب يصلح شيئًا ما فتشجعت.. ألقيتُ السلام.. تفحَّص ملامحي.. وقال بعزم وهو يشير إليَّ لأتبعه:
- تعالي..
تبعته إلى داخل الدكان.. تبعت إشارته إلى الركن.. وتسمرت بمكاني..
فسيفساء!
كان هذا منافيًا لمنطقي ومخيلتي.. حيث كانت المزهرية بالفعل أمامي.. إنما كانت أروع ما رأته عيني من لوحة.. وأبدعته أنامل فنان.. كانت لوحة المزهرية بالفسيفساء على الجدار هي أروع من المزهرية ذاتها.. مددت يدي أتحسسها.. وانفرطت مني دمعة.. فابتسم..
تذكرت وعدي قائلة:
- كم تريد؟
قال:
- كثيرًا..
هممت بفتح حقيبتي عازمة على إفراغ كل ما فيها.. فقاطعني:
- كثيرًا ما ستكسر الحياة مزهريتك.. لكن تذكري.. لا بأس بالفسيفساء.. هذا العمل هوايتي.. أصلح أي شيء بلا أجر..
تمتمت:
- حقًّا أنا عاجزة عن التعبير..
ازدادت ابتسامته اتساعًا:
- بإمكانك زيارتي في أي وقت وتحطيم أي شيء عندما تكونين غاضبة..
- ....
فسيفساء أيضًا؟
للمرة الأولى استوقفتني الفسيفساء على جدران مترو الأنفاق.. فغمرتني الابتسامة.. وظلت صاحبتي..
تعلَّقت عيني بالساعة وأنا ألحق درجة السلم المتحرك.. فاستوقفتني ابتسامة وجه مألوف بجانبي.. بادرني يقول للمرة الأولى:
- صباح الخير..


-------
 من كتاب ( فطائر ساخنة بالسكر )
حورية 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق